حتى إذا استيأس

سعد السبيعي

في خضمّ الظلمات الحالكة، حيث تُظلم العيون من شدة الحزن، وتضيق الأرض بما رحبت، تُطل علينا غزة، تلك المدينة الجريحة الصامدة، التي علمت الدنيا معنى الكرامة تحت القصف، والبطولة وسط الحصار، والإيمان عند انقطاع الرجاء.

كأنّ التاريخ يعيد نفسه في كل لحظة من لحظات غزة، كأننا نعيش الآية الكريمة: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء) (يوسف: 110).

إنها لحظة اليأس الكامل، اللحظة التي تسبق الانفراج، حين يُظنّ أن لا نصر بعد اليوم، ولا معونة في الأفق، ثم يأتي الغوث من الله وحده، في قلب المستحيل.

غزة ليست مجرد بقعة جغرافية صغيرة، إنها روح أمة، وقضية عقيدة، ومشهد متجدد من ملحمة الصراع بين الحق والباطل، هناك حيث يشتد الحصار، ويشتعل العدوان، ينبت الإيمان كالنخل في أرض قاحلة، راسخ الجذور، شامخ في وجه الصهاينة.

الناس هناك لا يعيشون كما نعيش، بل يقاومون كما لا نقاوم.

الطفل هناك لا يحلم بلعبة جديدة، بل يبتسم بين الأنقاض ويقول: «لن نرحل».

الفتاة في غزة لا تختار ثوب العيد، بل تختار أن تبقى في بيتها رغم القصف.

الرجل لا يذهب إلى عمله كل صباح، بل إلى خطوط النار، حاملاً بندقية ودعاء.

ورغم الجراح العميقة والخذلان العالمي، لم تسقط غزة رايتها، ولم تنكسر عزيمتها.

منذ عقود، وهي تحت القصف، والموت فيها رفيق لا يغيب، لكنها ما استسلمت.

حتى في أقسى لحظاتها، تخرج المآذن بنداء الله أكبر، وتعلو الأناشيد بأصوات المجاهدين:

قم فإن الله لا يرضى بأن تحيا ذليلا              واحمل الرايات حراً واحتمل حملاً ثقيلا

تخيل أن تُقصف كل ليلة، وتقوم كل صباح لتُصلّي، وتُربّي أبناءك على الأمل!

تخيل أن تودّع بيتك ولا تدري إن كنت ستعود، ومع ذلك، لا تفرّ، ولا تساوم، ولا تضعف!

ذلك ليس أمراً عادياً، ذلك مقام من مقامات العزة التي لا تُشترى ولا تُفرض، بل تُولد في القلوب المؤمنة.

غزة اليوم لا تبكي، بل تُبكينا، لا تطلب الشفقة، بل تمنحنا دروساً في الصبر والصمود، تُعيد ترتيب أولوياتنا، وتفضح ضعفنا.

نحسب أحياناً أننا المنتصرون حين نكسب جدالاً أو منصباً أو مالاً، ثم نرى غزة، فنعرف من المنتصر الحقيقي، ومن المهزوم مهما بدا قوياً.

العالم كله يرى، لكن أكثره أصم.

الضمير الإنساني يُباع في بورصات المصالح، وتُقايَض دماء الأطفال بمعاهدات وصفقات، لكن الله لا يغفل، ولا ينسى.

وغزة تعرف هذا جيداً، تعرف أن النصر ليس بقرار دولي، ولا بند في مجلس الأمن، بل بوعد رباني جاء في كتاب لا يأتيه الباطل: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47).

هي تعلم أن لحظة (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ) قريبة جداً؛ لأنها آمنت، وثبتت، وصبرت، ودفعت من دمها وأمنها وقوت يومها ثمن الكرامة.

فلا تظنوا أن غزة ضعيفة، بل نحن من ضعفنا عنها، ولا تظنوا أنها تحتاج منكم دموعاً، بل تحتاج دعاءً صادقاً، ودعماً صادقاً، وموقفاً لا يتلوّن.

ستبقى غزة شوكة في حلق العدو، ونوراً في قلب كل حر، وستمر المحنة، وتبزغ شمس النصر، وتُطوى صفحات الألم؛ لأن هذا وعد الله؛ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا).